الأمين الوطني الأول يوسف أوشيش

خطاب الأمين الوطني الأول خلال الدورة الاستثنائية للمجلس الوطني

الرفاق الأعزاء،

الحضور الكريم؛

نجتمع اليوم في دورة استثنائية للمجلس الوطني لحزبنا كي أضع بين أيديكم الحصيلة السنوية لأنشطتنا منذ انتخابي على رأس جبهة القوى الاشتراكية عقب المؤتمر الوطني العادي السادس إلى غاية يومنا هذا.
إن ثقافة المساءلة و تقديم الحصائل تُعتبر من أسس العملية الديمقراطية السليمة والقوية و التنظيم الفعال.
و ينبغي ألا تقتصر هذه الثقافة على ممارسة شكلية فحسب ، بل يجب أن تتعدى ذلك لتشكل جزءًا من نهج أساسي قوامه الشفافية و المسؤولية، والتكييف المستمر لنضالنا و لأسالييب عملنا.
إن عملية المساءلة ليست مجرد واجب أخلاقي فقط ، بل هي ركيزة أساسية لالتزامنا الديمقراطي. إنها فرصة هامة حيث يتعين علينا أن نقيم عملنا بصدق، دون مجاملة، و أن نحدد و نقف عند مكامن النقص و الخلل مع اقتراح الحلول المناسبة لتداركها مستقبلا.
الرفاق الأعزاء، الأصدقاء الكرام؛
لا أستطيع أن أبدأ كلمتي دون الإشارة إلى تاريخين مهمين ساهم كل واحد منهما على حدا في تشكيل فكرنا و ممارساتنا : الأول هو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 10 ديسمبر 1948، و مظاهرات 11 ديسمبر 1960، التي أحيينا الذكرى الـ 76 و الـ 64 لهما على التوالي.
يعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أحد الأسس الهامة التي بنيت عليها فلسفتنا السياسية، في حين أن ذكرى 11 ديسمبر تذكرنا بحقبة بطولية من نضال الشعب الجزائري من أجل الحرية والاستقلال هذا من جهة ، و من الجهة أخرى، بهمجية فرنسا الاستعمارية ضد المتظاهرين السلميين الذين كانوا يطالبون بحقهم في تقرير مصيرهم.
إن الحديث عن 10 ديسمبر يفرض عليّ إعادة التأكيد على ضرورة تبني مقاربة وطنية في مجال حقوق الإنسان. يجب أن تتوافق هذه المقاربة مع متطلبين أساسين: المسؤولية الوطنية و المسألة الديمقراطية. بالنسبة لجبهة القوى الاشتراكية، فإن الأمرين مترابطان ولا يمكن الفصل بينهما. فإذ تأخذ هذه المقاربة بعين الاعتبار القيم الإنسانية العالمية فإنها كذلك يجب أن تشمل خصوصياتنا التاريخية، الثقافية و متغيرات عالم اليوم، بعيدًا عن سياسة « الكيل بمكيالين » و المعايير الانتقاءية التي تحاول القوى الغربية فرضها على العالم بطريقة أحادية الجانب. إن سلوك هذه القوى، وصمتها، بل و تواطؤها ودعمها للإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها الكيان الصهيوني ضد شعوب كل من فلسطين و لبنان و سوريا، لأحسن مثال لازدواجية المعايير العنصرية و المتعالية .
أيها الأصدقاء الأعزاء، الحضور الكريم؛
فيما يتعلق بوطننا، ففي ظل التغيرات الجيوستراتيجية الكبرى التي يشهدها العالم، فإنه بات من الضروري تغيير المقاربات. يجب تبني و تشجيع الحوار مع الاستعداد الدائم لتقديم التنازلات و تشكيل التوافقات من أجل الحفاظ على البلاد و تعزيز وحدتها وتماسكها. و لن يتحقق الاستقرار الحقيقي إلا من خلال تسيير سياسي حكيم، يعتمد على بناء إطار ديمقراطي قادر على بعث الثقة و حماية المصلحة العليا للأمة. هذا هو الحصن الأقوى ضد كل محاولات تقويض سيادتنا وتهديد وحدتنا الترابية.
في حين لن يؤدي التسيير الأمني لشؤون المجتمع بحجة الحفاظ على النظام العام، إلا إلى إضعاف أسس المجتمع الجزائري و إلى تغذية مناخ الشك، و الخوف و الانقسام، إذ تعلمنا التجارب أن سياسات الغلق تولد التوترات التي تؤدي في نهاية المطاف إلى أزمات اجتماعية و سياسية أكثر خطورة.
إن الانفتاح السياسي، و احترام الحريات العامة، وإرساء تعددية حقيقية، وترسيخ المبادئ الديمقراطية وتكريس مبادئ دولة القانون ليست مجرد تطلعات شعبية بسيطة؛ بل هي الأسس التي يقوم عليها الاستقرار و التنمية.
الرفاق الأعزاء، الأصدقاء الكرام؛
إن التطورات الأخيرة التي تشهدها سوريا والسقوط المفاجئ و المدوي لنظام بشار الأسد تشير إلى عملية إعادة تشكيل و إلى بروز موازين قوى جديدة على مستوى الشرق الأوسط و على مستوى العالم ككل.
ورغم صعوبة تحديد تأثيراتها في الوقت الحالي، إلا أن تداعياتها قد تؤثر في التوازنات الهشة بالأساس، ليس فقط في المنطقة، بل أبعد من ذلك، من خلال التغيير الذي سيمس تحالفات و استراتيجيات القوى العالمية.
يجب أن تشكل هذه الأحداث درسًا لنا، و تذكرنا بحقيقة ثابتة غير قابلة للتأويل و هي أن قوتنا تكمن في وحدتنا و مدى قدرتنا على بناء منظومة قوية و مستقلة تمكننا من حماية أنفسنا من هذه التحولات الجيوسياسية الكبرى الماثلة أمام أعيننا.
اليوم، أكثر من أي وقت مضى، من الضروري أن يدرك مسؤولو البلاد و جميع القوى الحية في المجتمع اضرورة عملية إرساء البناء الوطني. يجب أن تكون خطواتنا جزءً من عملية شاملة لبناء وطن قوي قادر على مواجهة هذه التحولات. من الضروري تعزيز مؤسساتنا، وتطوير استقلاليتنا الاستراتيجية، وضمان الاستقرار و السلم الداخلي من خلال حوكمة عادلة، شاملة و مسؤولة.
فالتاريخ أثبت لنا أن الأمم المزدهرة هي تلك التي استثمرت في وحدتها و مقدرتها على التكيف . و بالتالي، ندعو السلطة وكل القوى الحية في الأمة إلى الانخراط في ورشة كبيرة للسيادة و القدرة الدائمة على التكيف. متحدين بتنوعنا و متسلحين بإرادة مشتركة، سنتمكن من بناء مستقبل آمن ، مزدهر و مستقل، بعيدًا عن الاضطرابات الجيوستراتيجية والتأثيرات الخارجية.
إن السيادة الوطنية، بكل أبعادها، سواء كانت اقتصادية، سياسية، عسكرية أو ثقافية، متى تدعمت بانفتاح سياسي و ديمقراطي حقيقي، ستكون حتما حجر الأساس لصمودنا و مرونتنا و قدرتنا على التكيف . و فقط بتعزيز هذه السيادة الشاملة سنتمكن من تحصين أنفسنا من المخاطر الخارجية، و من توظيفات التنافس الدولي المحموم و محاولات زعزعة الاستقرار .
و من هذا المنطلق، نؤكد على ضرورة وضع حد للتسيير الأمني و الأحادي لشؤون البلاد و الانخراط في عملية إصلاحات كبرى قادرة على ضمان الديمقراطية السياسية، و التنمية الاقتصادية و الازدهار الاجتماعي. يجب تحديد مشروع وطني واضح و طموح و بإشراك جميع القوى الحية في البلاد فيه: السلطة، القوى السياسية، المجتمع المدني، القوى الاقتصادية، الاجتماعية و الثقافية.
يجب على الجميع أن يكونوا شركاء في هذه التحول العميق، لأن مستقبل الأمة الجزائرية يعتمد على قدرتنا الجماعية، مجتمعًا، معارضة وحكومة، على التعامل مع التحديات الحالية، و على مدى انخراط كل مواطن في بناء هذا الوطن.
و هذا ما يستلزم مباشرة مشاريع إصلاحية جريئة و عميقة لتعزيز مؤسساتنا و جعل الديمقراطية أمرًا لا رجعة فيه. يجب أن يصاحب هذا الإصلاح التزام صادق لإحداث ثورة في بعض القطاعات الرئيسية الوطنية، مثل التعليم، الصحة، الصناعة، الزراعة، العلوم والتكنولوجيا. هذه القطاعات يجب أن تشكل عوامل دفع لتنمية بلادنا و لبناء قدرتنا على التكيف، مما يضمن للأمة استقلالية حقيقية.
يجب ألا تقتصر عملية بناء الأمة على إعلان حسن النوايا، بل يجب أن تتحقق من خلال أفعال ملموسة، و مشاريع تنموية طموحة، وحوكمة مسؤولة، شاملة و ذات رؤية، ليشعر كل مواطن بمسؤوليته تجاه نجاح هذا المشروع الجماعي.
الرفاق الأعزاء، الأصدقاء الكرام؛
يجب أن نبقى دائمًا يقظين و ندعو في كل الأوقات و الظروف إلى الوحدة في مواجهة النقاشات العقيمة و المناورات الهادفة إلى التفرقة و الانقسام.
و في وقت يكون فيه وطننا في أشد الحاجة إلى الهدوء، و السكينة و الوحدة تعود نقاشات سامة و خبيثة ، و التي دفنها الطابع الوحدوي للحراك، لتطفو إلى السطح بهدف خلق أجواء من الانقسام و لضرب مواطنينا بعضهم ببعض . من الضروري أن نتساءل عن أصل هذه المناورات و مقاصدها الحقيقية ، و التي تسعى إلى تحويل انتباهنا عن التحديات الحقيقية التي تواجه أمتنا.
في هذه اللحظة الحاسمة، يقع على عاتق السلطة مقاومة كل الإغراءات السلطوية من خلال وضع حد للتسيير الأمني لشؤون البلاد، كما يقع أيضا على المجتمع بأسره محاربة شياطين الانقسام و التفرقة. يجب أن يكون الانتماء إلى وطننا، إلى أمتنا، فوق أي اعتبار آخر. يجب أن نتذكر أن الجزائر أولاً و قبل كل شيء، واحدة غير قابلة للتقسيم، موحدة بتنوعها. هذه الوحدة التي لا تعني فرض الفكر الواحد، و إنما وحدة الثراء و تعددية الأصوات، والثقافات و اللغات و التقاليد التي تشكل المجتمع الجزائري. كل منطقة وكل موروث يشكلان معًا قوة بلادنا. إنه في هذا التنوع تكمن هويتنا الحقيقية، و إنها هذه هي الثروة التي يجب أن نحتفي بها، نحميها و نبرزها.
مرة أخرى، يجب أن نكون يقظين و رافضين لأي محاولة لاستغلال الحساسيات المرتبطة بالمنشأ الجغرافي أو المكانة الاجتماعية. يجب أن تكون الوحدة الوطنية، المدعومة بتمسكنا العميق بجذورنا التاريخية المشتركة، هي البوصلة.
نحن جميعًا، دون استثناء، ورثة و أوصياء على نفس التراث. من واجبنا أن نحافظ على هذه الوحدة، ونغذي روح الأخوة، وأن لا نسمح لأنفسنا بأن ننشغل بخطابات تسعى إلى زرع الفرقة.
اليوم، أكثر من أي وقت مضى، قوتنا في وحدتنا، و إن مرونتنا و قدرتنا على التكيف هما الأمان. سننجح معًا، وسنحمي وطننا و مستقبلنا معا.
أيها الرفاق،
في جانب آخر، فإنإن قرار « إنهاء مهام » محمد شرفي من على رأس السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات يعد إجراءً ضرورياً، و ذلك قياسا بالتجاوزات التي صدرت منه أثناء عملية الإعلان عن النتائج الأولية للانتخابات الرئاسية للسابع من سبتمبر الماضي و للتناقضات الكثيرة التي شابتها من خلال التلاعب بأصوات الناخبين ما تسبب بالإضرار بصورة البلد و الطعن في مصداقية المسار الانتخابي.
بطبيعة الحال لن يكون هذا القرار ذا أثر كبير ما لم يعقبه إعادة نظر في القوانين العضوية و في النصوص المؤطرة للحياة السياسية بصفة عامة و للعملية الانتخابية بصفة خاصة.
لذلك و لإضفاء المصداقية على العملية الانتخابية و لاستعادة الثقة فيها و لضمان مشاركة مواطناتية فعلية خلالها يتحتم تعديل القانون العضوي للانتخابات الذي يعتبره الجميع بشكله الحالي بأنه لا يتناسب مع التحديات الآنية و مع متطلبات الشفافية و النزاهة و مبدأ تكافؤ الفرص.
مثلما يتوجب التوجه نحو تحيين الساحة السياسية عبر تعديل معمق لقانون الأحزاب السياسية، ما يعيد لها الاعتبار كأدوات حوكمة حقيقية تساهم في تسيير و تأطير الحياة العامة.
نفس الشيء ينطبق على قانوني البلدية و الولاية اللذين يفترض أن يؤسسا لعهد جديد في تسيير الجماعات المحلية عبر منظور تشاركي و لامركزي.
لا بد أن تتجه كل هذه التعديلات بالأساس إلى إعادة الاعتبار للعملية السياسية بشكل عام، و للعملية الانتخابية بشكل خاص، و إلى توفير المناخ الملائم للذهاب نحو انفتاح سياسي و إعلامي حقيقيين يمهدان لإرساء ديمقراطية تمثيلية حقيقية و متينة، لا رجعة فيها، عبر توافق وطني شامل.
الرفاق الأعزاء ، الحضور الكريم ،
أختتم خطابي هذا بدعوتكم لحضور الوقفة الترحمية التي سينظمها حزبنا بمناسبة الذكرى التاسعة لوفاة رئيسنا ومؤسس حزبنا، المجاهد و المناضل الراحل حسين آيت أحمد، وذلك يوم السبت 21 ديسمبر في قرية آث أحمد بتيزي وزو الساعة 11:00 صباحًا. ستكون الوقفة في إطار الاحترام التام لآخر وصاياه.
المجد و الخلود لشهدائنا الأبرار ،
تحيا الجزائر،
يحيا الأفافاس.

الأمين الوطني الأول
يوسف أوشيش

Publications similaires